فصل: تفسير الآية رقم (256):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (256):

قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما اتضحت الدلائل لكل عالم وجاهل صار الدين إلى حد لا يحتاج فيه منصف لنفسه إلى إكراه فيه فقال: {لا إكراه في الدين} وقال الحرالي: لما نقل سبحانه وتعالى رتبة الخطاب من حد خطاب الأمر والنهي والحدود وما ينبني عليه المقام به دين القيمة الذي أخفى لهم أمر العظمة والجبروت الجابر لأهل الملكوت والملك فيما هم فيه مصرفون إلى علو رتبة دين الله المرضي الذي لا لبس فيه ولا حجاب عليه ولا عوج له، وهو اطلاعه سبحانه وتعالى عبده على قيوميته الظاهرة بكل باد وفي كل باد وعلى كل باد وأظهر من كل بادٍ وعظمته الخفية التي لا يشير إليها اسم ولا يجوزها رسم وهي مداد كل مداد بين سبحانه وتعالى وأعلن بوضع الإكراه الخفي موقعه في دين القيمة من حيث ما فيه من حمل الأنفس على كرهها فيما كتب عليها مما هو علم عقابها وآية عذابها، فذهب بالاطلاع على أمر الله في قيوميته وعظمته كره النفس بشهودها جميع ما تجري فيه لها ما عليها.
فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات بما استشعرته قلوبهم من ماء التوحيد الجاري تحت مختلفات أثمار أعمالهم فعاد حلوه ومره بذلك التوحيد حلوًا، كما يقال في الكبريت الأحمر الذي يقلب أعيان الأشياء الدنية إلى حال أرفعها- انتهى.
ثم علل سبحانه وتعالى انتفاء الإكراه عنه بقوله: {قد تبين الرشد} قال الحرالي: وهو حسن التصرف في الأمر والإقامة عليه بحسب ما يثبت ويدوم {من الغي} وهو سوء التصرف في الشيء وإجراؤه على ما تسوء عاقبته- انتهى.
أي فصار كل ذي لب يعرف أن الإسلام خير كله وغيره شر كله، لما تبين من الدلائل وصار بحيث يبادر كل من أراد نفع نفسه إليه ويخضع أجبر الجبابرة لديه فكأنه لقوة ظهوره وغلبة نوره قد انتفى عنه الإكراه بحذافيره، لأن الإكراه الحمل على ما لم يظهر فيه وجه المصلحة فلم يبق منه مانع إلاّ حظ النفس الخبيث في شهواتها البهيمية والشيطانية {فمن} أي فكان ذلك سببًا لأنه من {يكفر بالطاغوت} وهو نفسه وما دعت إليه ومالت بطبعها الرديء إليه.
وقال الحرالي: وهو ما أفحش في الإخراج عن الحد الموقف عن الهلكة صيغة مبالغة وزيادة انتهاء مما منه الطغيان- انتهى.
{ويؤمن بالله} أي الملك الأعلى ميلًا مع العقل الذي هو خير كله لما رأى بنوره من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة وداوم على ذلك بما أفادته صيغة المضارع من يكفر ويؤمن {فقد استمسك} على بصيرة منه {بالعروة الوثقى} أي التي لا يقع شك في أنها أوثق الأسباب في نجاته بما ألقى بيده واستسلم لربه {ومن يسلم وجهه إلى الله} [الحج: 31]، والعروة ما تشد به العياب ونحوها بتداخلها بعضها في بعض دخولًا لا ينفصم بعضه من بعض إلا بفصم طرفه فإذا انفصمت منه عروة انفصم جميعه، والوثقى صيغة فعلى للمبالغة من الثقة بشدة ما شأنه أن يخاف وهنه، ثم بين وثاقتها بقوله: {لا انفصام لها} أي لا مطاوعة في حل ولا صدع ولا ذهاب.
قال ابن القطاع: فصمت الشيء صدعته، والعقدة حللتها، والشيء عنه ذهب.
وقال الحرالي: من الفصم وهو خروج العرى بعضها من بعض، أي فهذه العروة لا انحلال لها أصلًا، وهو تمثيل للمعلوم بالنظر والاحتجاج بالمشاهد المحسوس ليتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده فيه ويجل اغتباطه به، فعلم من هذا أنه لم يبق عائق عن الدخول في هذا الدين إلا القضاء والقدر، فمن سبقت له السعادة قيض الله سبحانه وتعالى له من الأسباب ما يخرجه به من الظلمات إلى النور، ومن غلبت عليه الشقاوة سلط عليه الشياطين فأخرجته من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والحيرة.
ولما كان كل من الإيمان والكفر المتقدمين قولًا وفعلًا واعتقادًا قال مرغبًا فيهما ومرهبًا من تركهما: {والله} الذي له صفات الكمال {سميع} أي لما يقال مما يدل على الإيمان {عليم} أي بما يفعل أو يضمر من الكفر والطغيان ومجاز عليه، ولعل في الآية التفاتًا إلى ما ذكر أول السورة في الكفار من أنه سواء عليهم الإنذار وتركه وإلى المنافقين وتقبيح ما هم عليه مما هو في غاية المخالفة لما صارت أدلته أوضح من الشمس وهي مشعرة بالإذن في الإعراض عن المنافقين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} استئناف بياني ناشئ عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قوله: {وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم} [البقرة: 244] إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام فبيّن في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول في الإسلام وسيأتي الكلام على أنّها محكمة أو منسوخة.
وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أنّ ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأممُ، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضحِ العقيدة، المستقيم الشريعةِ، باختيارهم دون جبر ولا إكراه، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال: أيُتْرَكون عليه أم يُكْرَهُون على الإسلام، فكانت الجملة استئنافًا بيانيًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اللام في {الدين} فيه قولان أحدهما: أنه لام العهد والثاني: أنه بدل من الإضافة، كقوله: {فَإِنَّ الجنة هي المأوى} [النازعات: 41] أي مأواه، والمراد في دين الله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ونفي الإكراه خبر في معنى النهي، والمراد نفي أسباب الإكراه في حُكم الإسلام، أي لا تكرهوا أحدًا على اتباع الإسلام قسرًا، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصًا.
وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدِّين بسائر أنواعه، لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال، والتمكين من النظر، وبالاختيار.
وقد تقرر في صدر الإسلام قتال المشركين على الإسلام، وفِي الحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها».
ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله، فالظاهر أنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لاسيما وقد قيل بأنّ آخر آية نزلت هي في سورة النساء (176) {يبين الله لكم أن تضلوا} الآية، فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبّر عنه بالذمة، ووضحُه عمل النبي وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجًا حين جاءت وفود العرب بعد الفتح، فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملَّة إبراهيم، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحمل هذا الدين وحماية بيضته، وتبيّنَ هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون أتِّباعه من المكابرة، وحقّق الله سلامه بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع إنّ الشيطان قد يئس من أن يُعبد في بلدكم هذا لَمَّا تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه، ولذلك قال [سورة التوبة 29]: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدّم من آيات القتال مثل قوله قبلها {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} [التوبة: 73] على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة:
أحدها: آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} [التوبة: 36]، وقوله: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله} [البقرة: 194]، وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين.
النوع الثاني: آيات أمرت بقتال المشركين والكفّار ولم تغيّ بغاية، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيّدًا بغاية آيةِ: {حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29] وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه {لا إكراه في الدين}.
النوع الثالث: مَا غُيِّيَ بغاية كقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} [البقرة: 193]، فيتعين أن يكون منسوخًا بهاته الآية وآيةِ: {حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29] كما نُسخ حديث: «أمرتُ أن أقاتل الناس» هذا ما يظهر لنا في معنى الآية، والله أعلم.
ولأهل العلم قبلنا فيها قولان: الأول قال ابن مسعود وسليمان بن موسى: هي منسوخة بقوله: {يأيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين} [التوبة: 73]، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلاّ به.
ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص.
والاستدلال على نسخها بقتال النبي صلى الله عليه وسلم العربَ على الإسلام، يعارضه أنّه عليه السلام أخذ الجزية من جميع الكفّار، فوجه الجمع هو التنصيص.
القول الثاني أنها محكّمة ولكنّها خاصة، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك هي خاصة بأهل الكتاب فإنّهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية وإنّما يجبر على الإسلام أهل الأوثان، وإلى هذا مال الشافعي فقال: إنّ الجزية لا تؤخذ إلاّ من أهل الكتاب والمجوسِ.
قال ابن العربي في الأحكام وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنسٍ يَحمل الآية عليه، يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد: نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مِقلاتًا أي لا يعيش لها ولد تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا: لا ندع أبناءنا بل نكرههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى: {لا إكراه في الدين}. اهـ.

.قال الفخر:

في تأويل الآية وجوه:
أحدها: وهو قول أبي مسلم والقفال وهو الأليق بأصول المعتزلة: معناه أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار، ثم احتج القفال على أن هذا هو المراد بأنه تعالى لما بيّن دلائل التوحيد بيانًا شافيًا قاطعًا للعذر، قال بعد ذلك: إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان، ونظير هذا قوله تعالى: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وقال في سورة أخرى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3، 4] وقال في سورة الشعراء {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء آيَةً فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} ومما يؤكد هذا القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} يعني ظهرت الدلائل، ووضحت البينات، ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه، وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف فهذا تقرير هذا التأويل.
القول الثاني: في التأويل هو أن الإكراه أن يقول المسلم للكافر: إن آمنت وإلا قتلتك فقال تعالى: {لا إِكْرَاهَ في الدين} أما في حق أهل الكتاب وفي حق المجوس، فلأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم، وأما سائر الكفار فإذا تهودوا أو تنصروا فقد اختلف الفقهاء فيهم، فقال بعضهم: إنه يقر عليه؛ وعلى هذا التقدير يسقط عنه القتل إذا قبل الجزية، وعلى مذهب هؤلاء كان قوله: {لا إِكْرَاهَ في الدين} عامًا في كل الكفار، أما من يقول من الفقهاء بأن سائر الكفار إذا تهودوا أو تنصروا فإنهم لا يقرون عليه، فعلى قوله يصح الإكراه في حقهم، وكان قوله: {لا إِكْرَاهَ} مخصوصًا بأهل الكتاب.
والقول الثالث: لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهًا، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره، ومعناه لا تنسبوهم إلى الإكراه، ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]. اهـ.